سورة يونس - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1)}
قوله تعالى: {الر} قال النحاس: قرئ على أبي جعفر أحمد بن شعيب بن علي ابن الحسين بن حريث قال: أخبرنا علي بن الحسين عن أبيه عن يزيد أن عكرمة حدثه عن ابن عباس: الر، وحم، ونون حروف الرحمن مفرقة، فحدثت به الأعمش فقال: عندك أشباه هذا ولا تخبرني به؟. وعن ابن عباس أيضا قال: معنى {الر} أنا الله أرى. قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول، لان سيبويه قد حكى مثله عن العرب وأنشد:
بالخير خيرات وإن شرافا *** ولا أريد الشر إلا أن تا
وقال الحسن وعكرمة: {الر} قسم.
وقال سعيد عن قتادة: {الر} اسم السورة، قال: وكذلك كل هجاء في القرآن.
وقال مجاهد: هي فواتح السور.
وقال محمد بن يزيد: هي تنبيه، وكذا حروف التهجي. وقرى {الر} من غير إمالة. وقرى بالامالة لئلا تشبه ما ولا من الحروف.
قوله تعالى: {تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ} ابتداء وخبر، أي تلك التي جرى ذكرها آيات الكتاب الحكيم. قال مجاهد وقتادة: أراد التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة، فإن {تِلْكَ} إشارة إلى غائب مؤنث.
وقيل: {تِلْكَ} بمعنى هذه، أي هذه آيات الكتاب الحكيم. ومنه قول الأعشى:
تلك خيلي منه وتلك ركابي *** هن صفر أولادها كالزبيب
أي هذه خيلي. والمراد القرآن وهو أولى بالصواب، لأنه لم يجر للكتب المتقدمة ذكر، ولان {الْحَكِيمِ} من نعت القرآن. دليله قوله تعالى: {الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ} [هود: 1] وقد تقدم هذا المعنى في أول سورة البقرة. والحكيم: المحكم بالحلال والحرام والحدود والأحكام، قاله أبو عبيدة وغيره.
وقيل: الحكيم بمعنى الحاكم، أي إنه حاكم بالحلال والحرام، وحاكم بين الناس بالحق، فعيل بمعنى فاعل. دليله قوله: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].
وقيل: الحكيم بمعنى المحكوم فيه، أي حكم الله فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وحكم فيه بالنهي عن الفحشاء والمنكر، وبالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه، فهو فعيل بمعنى المفعول، قاله الحسن وغيره.
وقال مقاتل: الحكيم بمعنى المحكم من الباطل لا كذب فيه ولا اختلاف، فعيل بمعنى مفعل، كقول الأعشى يذكر قصيدته التي قالها:
وغريبة تأتي الملوك حكيمة *** قد قلتها ليقال من ذا قالها


{أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2)}
قوله تعالى: {أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} استفهام معناه التقرير والتوبيخ. و{عَجَباً} خبر كان، واسمها {أَنْ أَوْحَيْنا} وهو في موضع رفع، أي كان إيحاؤنا عجبا للناس.
وفي قراءة عبد الله {عجب} على أنه اسم كان. والخبر {أَنْ أَوْحَيْنا}. {إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ} قرئ {رجل} بإسكان الجيم. وسبب النزول فيما روي عن ابن عباس أن الكفار قالوا لما بعث محمد: إن الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا. وقالوا: ما وجد الله من يرسله إلا يتيم أبي طالب، فنزلت: {أَكانَ لِلنَّاسِ} يعني أهل مكة {عَجَباً}.
وقيل: إنما تعجبوا من ذكر البعث. قوله تعالى: {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} في موضع نصب بإسقاط الخافض، أي بأن أنذر الناس، وكذا {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ}. وقد تقدم معنى النذارة والبشارة وغير ذلك من ألفاظ الآية. واختلف في معنى {قَدَمَ صِدْقٍ} فقال ابن عباس: قدم صدق منزل صدق، دليله قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الاسراء: 80]. وعنه أيضا أجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم. وعنه أيضا {قَدَمَ صِدْقٍ} سبق السعادة في الذكر الأول، وقاله مجاهد. الزجاج: درجة عالية. قال ذو الرمة:
لكم قدم لا ينكر الناس أنها *** مع الحسب العالي طمت على البحر
قتادة: سلف صدق. الربيع: ثواب صدق. عطاء: مقام صدق. يمان: إيمان صدق.
وقيل: دعوة الملائكة.
وقيل: ولد صالح قدموه. الماوردي: أن يوافق صدق الطاعة صدق الجزاء.
وقال الحسن وقتادة أيضا: هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه شفيع مطاع يتقد مهم، كما قال: «أنا فرطكم على الحوض». وقد سئل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «هي شفاعتي توسلون بي إلى ربكم».
وقال الترمذي الحكيم: قدمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المقام المحمود. وعن الحسن أيضا: مصيبتهم في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال عبد العزيز بن يحيى: {قَدَمَ صِدْقٍ} قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101].
وقال مقاتل: أعمالا قدموها، واختاره الطبري. قال الوضاح:
صل لذي العرش واتخذ قدما *** تنجيك يوم العثار والزلل
وقيل: هو تقديم الله هذه الامة في الحشر من القبر وفي إدخال الجنة. كما قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق». وحقيقته أنه كناية عن السعي في العمل الصالح، فكنى عنه بالقدم كما يكنى عن الأنعام باليد وعن الثناء باللسان. وأنشد حسان:
لنا القدم العليا إليك وخلفنا *** لأولنا في طاعة الله تابع
يريد السابقة بإخلاص الطاعة، والله أعلم.
وقال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق من خير أو شر فهو عند العرب قدم، يقال: لفلان قدم في الإسلام، له عندي قدم صدق وقدم شر وقدم خير. وهو مؤنث وقد يذكر، يقال: قدم حسن وقدم صالحة.
وقال ابن الاعرابي: القدم التقدم في الشرف، قال العجاج:
زل بنو العوام عن آل الحكم *** وتركوا الملك لملك ذي قدم
وفي الصحاح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لي خمسة أسماء. أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب» يريد آخر الأنبياء، كما قال تعالى: {وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. قوله تعالى: {قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ} قرأ ابن محيصن وابن كثير والكوفيون عاصم وحمزة والكسائي وخلف والأعمش {لَساحِرٌ} نعتا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقرأ الباقون {لسحر} نعتا للقرآن وقد تقدم معنى السحر في البقرة.


{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3)}
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} تقدم في الأعراف. {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} قال مجاهد: يقضيه ويقدره وحده. ابن عباس: لا يشركه في تدبير خلقه أحد.
وقيل: يبعث بالأمر.
وقيل: ينزل به.
وقيل: يأمر به ويمضيه، والمعنى متقارب. فجبريل للوحي، وميكائيل للقطر، وإسرافيل للصور، وعزرائيل للقبض. وحقيقته تنزيل الأمور في مراتبها على أحكام عواقبها، واشتقاقه من الدبر. والامر اسم لجنس الأمور. {ما مِنْ شَفِيعٍ} في موضع رفع، والمعنى ما شفيع {إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} وقد تقدم في البقرة معنى الشفاعة. فلا يشفع أحد نبي ولا غيره إلا بإذنه سبحانه، وهذا رد على الكفار في قولهم فيما عبدوه من دون الله: {هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] فأعلمهم الله أن أحدا لا يشفع لاحد إلا بإذنه، فكيف بشفاعة أصنام لا تعقل. قوله تعالى: {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ}
أي ذلكم الذي فعل هذه الأشياء من خلق السموات والأرض هو ربكم لا رب لكم غيره. {فَاعْبُدُوهُ} أي وحدوه وأخلصوا له العبادة. {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي أنها مخلوقاته فتستدلوا بها عليه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8